Publications /
Opinion

Back
أثر الأوبئة على الأنشطة الاقتصادية في المغرب أواخر العصر الوسيط
Authors
محمد ياسر الهلالي
April 13, 2020

يقتضي الحديث عن الآثار التي خلفتها الأوبئة على الفلاحة، والحرف، والتجارة في المغرب ما بين النصف الثاني من القرن 13م إلى النصف الأول من القرن 16م، الأخذ بعين الاعتبار تأثير العامل الديموغرافي على الجانب الاقتصادي، بما أن عجلة الاقتصاد آنذاك كانت تقوم أساسا على الجانب البشري. فالراجح أن عدد المغاربة ظل يتناقص باطراد منذ القرن 7 هـ/ 13م، وطيلة القرنين 14 و15م.

أثر الأوبئة على الفلاحة

أسفر توالي الأوبئة على المغرب، خلال الحقبة التاريخية المدروسة، عن ظهور العديد من المشاكل وتفاقمها، أدت في النهاية إلى زعزعة الأسس المادية للنشاط الفلاحي، وأعاقت تطور الزراعة والغراسة والرعي. يأتي في مقدمة هذه العوائق، نقصان اليد العاملة الزراعية، وما يتبعه من نقص في الأراضي المحروثة بفعل موت العديد منها متأثرا بهذه الأوبئة، وكذا بفعل تسليم بعض سكان المناطق المتضررة من الأوبئة لذويهم وأنفسهم للبرتغاليين مقابل الطعام. كما تضرر العمل الزراعي، وتقلصت المساحات المزروعة نتيجة نفوق الكثير من دواب الحرث بالتزامن مع الأوبئة. وقد أفرزت الأوبئة ظاهرة التخلي عن الأراضي، وتكاثر ظواهر الغصب. كما أسهمت الأوبئة في تشتيت الملكية الزراعية، بسبب توزيع التركة.

لم يكن حظ الرعاة من الأوبئة أحسن من المزارعين. وإذا ما علمنا أن الطاعون قد ينتقل من الماشية إلى الآدميين، نفهم الخسائر التي تكبدها الرعاة. وكشأن الفلاحين، دفعت بعض الأوبئة بعض الرعاة إلى الهجرة طواعية إلى البرتغال، وعرضوا أنفسهم كعبيد لمن يعولهم.

في المحصلة لم تسمح موجات الأوبئة بحدوث طفرة فلاحية، وإنما أسهمت بقسط لا بأس به في تقلص المساحات المزروعة وبالتالي نقص الإنتاجية، وانتشار الرعي على حساب الزراعة والغراسة. وأسفرت عن إحداث خلخلة في التوازنات الاقتصادية للمزارعين والرعاة، الذين لم يكن بوسع بعضهم أمام مشاكل متعددة ومتنوعة، وضعف أساليب مواجهتها، سوى هجرة الأرض.

 

أثر الأوبئة على الحرف والتجارة

ترك الضرر الذي لحق بالنشاط الفلاحي من جراء الأوبئة بصمات سلبية على النشاطين الحرفي والتجاري، لأن البادية كانت تعد المزود الأول للنشاطين معا بالمواد الأولية. كما انعكس التجاري على الحرفي، لأنه شكل الرئة التي كانت تتنفس منها المنتوجات الحرفية.

لقد أسفرت الأوبئة عن موت العديد من اليد العاملة الحرفية، وكان فقرها عاملا مساعدا في ذلك، لاسيما أن الأوضاع كانت تتفاقم في المدن، أيام الأوبئة، خاصة الموفورة العمران منها مثل فاس، لكونها كانت ذات حركية حرفية وتجارية مهمة، وذلك نتيجة فساد الهواء بسبب كثرة البنايات، والاختلاط الذي وفر المناخ الملائم لانتشارها.

تأثرت الحرف في المدن أيضا من جراء الأوبئة بفعل فرار العديد من سكانها ومنهم اليد العاملة الحرفية. كما تأثرت بالعدد الكبير من المرضى، الذين أصبحوا فاقدين لقوتهم الإنتاجية. لكل هذا، اضمحلت الكثير من الورشات الحرفية، والبنيات التحتية التجارية (حوانيت، طرق...) وخرب بعضها الآخر، وانكمشت الحركة التجارية بعد أن قلت المواد بالأسواق، إثر تراجع الإنتاج.

ومن الانعكاسات الاقتصادية الأخرى للأوبئة على التجارة، تضرر السير الطبيعي لحركيتها نتيجة لجوء بعض التجار إلى المضاربة والاحتكار، تحينا لأوقات الغلاء. كما عانى النشاطان الحرفي والتجاري بفعل ضعف القدرة الشرائية للسكان خلال الأوبئة، في وقت ترتفع فيه الأسعار، مما ينعكس سلبا على الحركة الحرفية والتجارية نتيجة قلة الإنتاج والرواج، وبالتالي تضعف القدرة الشرائية للمشتغلين في الحرف والتجارة.

وإذا كانت الحرف تأثرت بضعف القدرة الشرائية، فإنها تأثرت أيضا بالأسعار الزهيدة التي كانت تباع بها حاجات الأحياء الباحثين عن الطعام، فتحول بعض الحرفيين والتجار إلى باعة للأثاث والملابس المستعملة.

 كما شكل الخوف من الأوبئة عائقا أمام الحرف، بالقدر نفسه الذي عطل الحركة التجارية، فقد كان للخوف من العدوى دوره في توقف القوافل بين المدن.

إن الكساد الاقتصادي الذي عرفته المدن من جراء الأوبئة، طال أيضا الحركة التجارية بين المدينة ومحيطها، باعتبار هذا المحيط هو المزود الأول لأسواق المدينة بالمواد الغذائية، وكذا بالمواد الأولية. وفي المقابل، كانت المدينة تزود البادية بالأدوات المصنعة الخاصة بالنشاط الزراعي. ويرجح أن التجارة البعيدة المدى تأثرت بدورها بالأوبئة.

قصارى القول، كانت الأوبئة تنقض دوريا لتعرقل جهود الحرفيين والتجار، وتخرب الشروط اللازمة لتقدم حرفهم وتجارتهم. والراجح، أن المشاكل التي أفرزتها هذه الجوائح، أدت إلى إفلاس العديد من التجار وخاصة الصغار منهم، والتحق بعضهم بصفوف العاطلين.

يتضح إذن أن الأنشطة الاقتصادية الثلاثة في مغرب أواخر العصر الوسيط تأثرت كثيرا بما جابهته من أوبئة ألجمت تطورها، وحكمت على هياكلها الإنتاجية بالثبات والركود. وتأثر كل نشاط اقتصادي من جراء الأوبئة يعني تأثر الأنشطة الأخرى، فنحن أمام دورة اقتصادية كان ينعكس بعضها على الآخر نظرا للتداخل الكبير الحاصل بينها.

تبين كذلك أن النقص الديموغرافي الناتج عن تكرار الأوبئة طيلة أواخر العصر الوسيط، أضر كثيرا بالأنشطة الاقتصادية مجتمعة، وأدى بها إلى التقوقع والانكماش عبر تعطيل البنيات الإنتاجية نتيجة تآكل قوى الإنتاج، وتعرضها للتلاشي، في بلد شكل فيه العنصر البشري الركيزة الاقتصادية الأساسية للبلاد، والعمود الفقري لتطوره الاجتماعي والاقتصادي، لكونه محور كل المهام الاقتصادية. لذلك، فإن إعادة بناء اقتصاد مشلول بفعل هذه الجوائح، كان يتطلب مدة طويلة، تظل خلالها الحياة الاقتصادية متذبذبة. ويمكن القول إن الأوبئة التي ضربت المغرب أواخر العصر الوسيط وعلى رأسها الطاعون الأسود، غيرت وجهه، ورسمت به ملامح اقتصادية وديموغرافية - اجتماعية استمرت خلال العصور اللاحقة إلى حدود الحماية.

أما الدولة، فتبين أنها كانت عاجزة عن مواجهة النتائج السلبية للأوبئة على الأنشطة الاقتصادية، فلم يكن لها، في الغالب، سياسة اقتصادية واضحة حتى في أيام الرخاء، كما لم تكن إجراءاتها للحد من الآثار الاقتصادية للأوبئة، إن قامت بها، هيكلية بل ارتبطت بشخصية السلطان، مما يعني محدوديتها في الزمان.

RELATED CONTENT

  • January 11, 2024
    Dans cet épisode, nous abordons la sécurité sanitaire en Afrique, un continent aux réalités socio-économiques variées. Malgré des défis majeurs tels que la mortalité infantile et les maladies infectieuses, les systèmes de santé sont sous-financés. Nous mettons en lumière les acteurs clé...
  • July 18, 2023
    Le secteur informel est une composante essentielle de l'économie marocaine, employant une large partie de la population, mais nuisant à la productivité, aux recettes fiscales de l’État et à la croissance économique à long terme. Sur la base de la définition adoptée dans cette étude et qui définit les travailleurs informels comme étant ceux qui ne sont pas couverts par les régimes contributifs de sécurité sociale de la Caisse nationale de sécurité sociale (CNSS) et d ...
  • October 7, 2022
    “The debate on the viability of industrial policy design based on the fragmentation of global value chains, from a cost optimization perspective, did not arise first in the wake of the Covid-19 crisis but was present long before. This industrial policy design was justified by the great development of logistics and transport across the world’s industrial clusters, which allowed just-in-time manufacturing to become the main adopted production model. However, the disruption of logistic ...
  • Authors
    Sous la direction de Larabi Jaïdi
    Muhammad Ba
    Marouane Ikira
    Pierre Jacquemot
    Brian Kelly Nyaga
    Leo Kemboi
    Moubarack Lo
    Mouhamadou Ly
    Solomon Muqay
    Dennis Njau
    Meriem Oudmane
    Kwame Owino
    Faith Pittet
    Amaye Sy
    September 29, 2022
    La succession des chocs pandémique, climatique et géopolitique a éprouvé les économies africaines. Les liens commerciaux et financiers avec le monde ne sont plus seulement considérés comme des moteurs de performance, mais aussi comme des sources potentielles de vulnérabilité. La défiance à l’égard de la mondialisation s’est accrue. Parce qu’elle est venue souligner la dépendance du continent, le dérèglement de ses rapports à la nature et sa vulnérabilité face aux tensions géopolitiq ...
  • Authors
    September 16, 2022
    From the perspective of international human rights law, the right to health is important with respect to the international COVAX vaccine-supply scheme. Although many States with sufficient resources have prioritized access to future vaccines through bilateral agreements with vaccine manufacturing companies over multilateral cooperation between States, it is almost universally believed that only multilateralism would enable the eventual eradication of COVID-19 from the world. There ...
  • September 15, 2022
    Dans cet épisode d’Africafé, Hamza Saoudi analyse les enjeux de la sécurité sociale en Afrique et comment pallier aux manquements des Etats Africains dans ce domaine. Cet épisode passe aussi en revue les politiques publiques mises en œuvre par les Etats Africains pour mettre en place un...
  • From

    15
    6:00 pm July 2022
    L’apparition de de la COVID-19 a engendré une crise sanitaire mondiale, qui s’est rapidement transformé à d’autres crises bouleversant le vécu des humains de par la planète. En ce qui concerne les marchés mondiaux, notamment du travail, les incertitudes ont fortement impacté les comportements des agents. Aussi, les mises sous restrictions, totales ou partielles, des facteurs de production ont eu leur incidence sur l’activité globale -via différents canaux -, y compris celle des acteurs du marché du travail. À court terme, la pandémie est synonyme de fortes perturbations pour les citoyens et les marchés du travail. Celles-là concernent les revenues et les dépenses des particuliers comme elles portent sur l’activité des entreprises et donc les dynamiques de création d’emploi et ...
  • Authors
    Sabine Cessou
    July 12, 2022
    The Atlantic Dialogues Emerging Leaders Alumni (ADEL) Portraits are a series of journalistic insights that delve into the stories and backgrounds of impactful young leaders of the ADEL community, now 350 alumni strong. These portraits are more than a biography as they capture the motives, success stories, career shifts, and vision behind each emerging leader’s pursuit of positive impact. From Morocco to South Africa, Germany to Canada, Brazil and the United States, these young leade ...